عدّل ما شئت من قوانين، وأضف ما أحببت من نصوص، وزد أعداد الوزيرات المعينات وادعم أعداداً إضافية من النائبات المعيّنات، وأظهِر قدر الإمكان مؤسسات تدعم حقوقهن وتؤيّد مساواتهن وتعقد الندوات من أجل نصرتهن. لكن يظل ما في القلب في القلب وما في العقل في العقل وما في الموروث الثقافي مهيمناً. وتظل تلك الهيمنة مسيطرة مُحكمة قبضتها على القاعدة الشعبية العريضة بسلاح قوي فتاك، اسمه تفصيل التفسيرات الدينية بمقاسات تمليها القوى الرجعية، وضبط إيقاع المرأة وفق ما يتراءى لمشايخ الزوايا غير القانونية ومفتي القنوات غير الرسمية وسكوت كثيرين إما لرضا عن بقاء الحال كما هو، أو ليأس مرده الاقتناع بأن تغيير الحال من المحال.«استحالة يتغيّر الوضع. فهو من سيئ إلى أسوأ. في الباصات العامة تحرّش، في أماكن العمل رواتب متدنّية ومقاومة لتشغيل النساء، في البيت عنف وفرض سطوة من الأب أو الأخ أو الزوج أو من ينوب عنهم، وفي فرص العمل في المجال العام مثل السياسة مثلاً المجتمع عينه يعارض ويقاوم. لذا، فإن غالبية النساء العاديات تعايشن مع الواقع». إنها كلمات نهى محمود (32 سنة) التي تزوّجت في سن الـ16 سنة وحصلت على الطلاق في سن الـ 22 لأسباب تتعلّق بعنف الزوج، تشير إلى أنها واقعة تحت درجات متفاوتة مما سبق ذكره من أشكال العنف، لكنها متعايشة معه.هذا العنف هو ما سلّط عليه الضوء الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قبل أيام، حين قال أن امرأة بين كل ثلاث نساء في العالم ضحية للعنف. «750 مليون امرأة تزوّجن دون سن الـ18 سنة، وأكثر من 250 مليوناً خضعن للختان. والمدافعون عن حقوق النساء يستهدفون. والنساء العاملات في المجال السياسي يتعرّضن للعنف بهدف عرقلتهن. كل ذلك يؤثر سلباً في مسار الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمرأة».كما أشار غوتيريش إلى الأدلة المتزايدة إلى أن العنف ضد النساء والفتيات يرتبط بعنف آخر وهو التطرّف العنيف والإرهاب. القصص والصور الحية المتداولة هذه الآونة في مصر لا تخلو من أمهات وزوجات وبنات فقدن أزواجهن وأبناءهن وآباءهن في حادث بئر العبد الإرهابي. الصور والقصص تجسد ما أشار إليه غوتيريش عن العنف والإرهاب، ولو كانا غير مباشرين، اللذين يصيبان النساء والفتيات.فقدان العائل، لا سيما في منطقة مثل شمال سيناء حيث الغالبية المطلقة من النساء لا يعملن خارج البيت، هو أحد مظاهر العنف والإرهاب المادي والنفسي. ووفق نقيب أطباء شمال سيناء الدكتور صلاح سلام، استشهد 27 طفلاً دون سن العاشرة و160 شيخاً فوق سن الـ60 في هذا الحادث في المسجد، ومن الضحايا أيضاً 10 أسر بكاملها».مبادرة «اتحدوا لإنهاء العنف ضد المرأة» التي انطلقت السبت الماضي وتستمر 16 يوماً (إلى 10 كانون الأول/ ديسمبر المقبل) والتي تطلقها الأمم المتحدة سنوياً تحت عناوين مختلفة، تتزامن هذا العام مع هذا الحادث الجلل. وتتضمّن الفاعليات التي انطلقت تحت شعار «لن نخلف أحداً وراءنا: لينته العنف ضد النساء والفتيات» أنشاطات في جامعات، ومدارس، وجمعيات نسوية، وحملات إعلامية في مصر. وهدف المبادرة العالمية تعبئة الناس في كل مكان لإحداث التغيير، وإنهاء العنف الموجّه إلى المرأة لا سيما الفئات الأضعف والأكثر تهميشاً، وذلك من خلال «العالم البرتقالي» حيث تتلوّن الأنشطة باللون البرتقالي للفت الأنظار.أنظار كثيرين في مصر تحاول تجاهل الدراسات التي أطلق نتائجها في حزيران (يونيو) الماضي الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن العنف ضد المرأة، أو تقلل من شأنها. فثلث الإناث في الريف المصري لا يلتحقن بمدرسة، وحوالى 85 في المئة منهن لا يعملن خارج البيت. في المقابل، فإن حوالى 14 في المئة من الإناث في الحضر لا يلتحقن بمدرسة.أما الختان، وهو أحد أشكال ممارسة العنف ضد النساء والفتيات والذي يلقى تحريكه مقاومة مجتمعية شديدة، فقد وجدت الدراسة أن 90 في المئة من اللواتي بين سن 18 و64 سنة خضعن للختان. وتبلغ النسبة في الفئة العمرية بين 18 و19 سنة 62 في المئة، وبين 20 و24 سنة نحو 75 في المئة. كما كشفت حوالى نصف النساء أنهن يتعرّضن للعنف النفسي، وأنه أكثر شيوعاً من العنف البدني والجنسي. لكن تجب الإشارة إلى أن كثيرات لا يعتبرن تعرّضهن لأشكال بعينها من العنف البدني أو الجنسي عنفاً من الأصل، حيث يندرج تحت بند «حق الزوج» أو «حق الأب» أو «حق الأخ» في التقويم والإصلاح. واتضح أن نسبة التعرّض للعنف البدني ترتفع في شكل واضح بين الأميات.وللأميات والمتعلّمات، أطلق المركز القومي للمرأة حملة «كوني» التي تهدف طوال الأيام الـ16 إلى رفع الوعي وخلق رأي عام مساند للمرأة في حقها بعدم التعرّض للعنف، وإحداث التغيير المطلوب ميدانياً، وذلك بأن يرفض المجتمع هذا العنف بدلاً من تشجيعه ضمنياً ومباركته عبر السكوت عنه وتغذيته بمزيد من العنف. كما يطلق المركز المصري للمرأة حملة «اعرفي حقك» لمواجهة العنف ضدها. وتهدف إلى تشجيع النساء على المجاهرة بما يتعرّضن له من عنف واللجوء إلى القضاء للحصول على حقهن.يذكر أن الخط الساخن للمجلس القومي للمرأة يتلقى شهرياً نحو ألفي مكالمة لنساء وقعن ضحية للعنف.وبينما الجهود الأهلية والرسمية والنظرية تدور على قدم وساق لمدّ يد العون للنساء ضحايا العنف، وغيرهن من المعرّضات له، لا تزال دنيا الفتاوى تمطر الجميع بما يجيز ضرب الزوجة «ضرباً خفيفاً» بهدف التأديب، والامتناع عن ضرب الزوجة «الحامل»، وآلاف يسألون عن حكم عمل المرأة، وخروجها لزيارة أهلها من دون إذن الزوج، وحكم الزوجة التي ترفض الاستمرار في الإنجاب «بحجة إن صحتها لا تسمح لها برعاية أكثر من ثلاثة أطفال؟ وهل يجوز تطليقها؟» ولائحة طويلة من الأسئلة والإجابات المستمرة طوال العام وليس فقط خلال الأيام الـ16 للمبادرة.