في حضرة المتنبي”

كتابات 0 مدير

بقلم / بنت اليمن
ذات مساء وفي ليلة مقمرة جلست في منزلنا الطيني المتواضع أمام نافذة غطاها الصدأ وبدأت تتآكل ،صوبت بصري نحو السماء ضوء القمر ساطع ،سكون يبعث الراحة في القلب والطمأنينة، سكون أغراني أن أشارك القمر حديثا يضطرب في النفس كأمواج البحر العاتية ،حديث مثقل بالوجع والألم واللوعة.
بدا لي أن القمر قد تسمر في مكانه وكأنه تلذذ بمناجتي أياه،أو ربما هفا لسماع حديثي وهل يمل حديث العاشقين؟أو علّه تعاطف وبقائي مستيقظة حتى هذا الوقت المتأخر من الليل.
ما إن بدأت أسترسل في حديثي مع القمر ،وإذا بصوت وقع أقدام تقترب مني شعرت للحظة بالخوف الشديد غير أني أدركت. أنني في داخل المنزل.
تبدد خوفي اقترب مصدر الصوت مني أكثرفأكثر شدني الفضول ورحت أنظر بتمعن نحو مصدر الصوت ،إذا بفرس تشع من بين عينيه أصالة الخيل العربية ،يعتلي صهوته فارس غطى غبار الصحراء ورمالها ملابسه البيضاء بيده سيف وعليه رماح ،وريشة كتابة تعتلي عمامته وفي يده كتاب.
لم أصدق ما أرى ،أيعقل أن يكون هذا أبا الطيب المتنبي ؟!
وما الذي جاء به إلى هنا في هذا الوقت المتأخر من الليل ؟.
تلفتَ يمنة ويسرة وهم بالمغادرة تحاملت على ذلك الجسد المرتجف من هول الصدمة ،ثم ناديته بصوت متقطع أ..ب.ا ال.طي..ب.لم يلتفت إليِ. كررت النداء مرة أخرى أبا الط..يب ال..مت…نب..ي
شد لجام فرسه وتوجه نحوي، ثم حياني.
وسألني متعجبا كيف عرفتني أيتها الفتاة في زمن ضاعت فيه الملامح ؟
أجبته قائلة ثكلتني أمي إن لم أعرفك ،أولست القائل ؟
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح القرطاس والقلم
هو ذا خيل وليل وغبار بيداء و….و… و….وقلم ،ومن سواك يتمتع بكل هذه الصفات ؟ولكن. ما الذي جعلك تمر في هذا الوقت ؟
رد علي والحسرة تسكن كلماته
أبحث عن عربي مستيقظ ،فقد مريت ببغداد ودمشق والقاهرة وطرابلس.. و… ..و…
وكيف وجدت العرب ؟
وجدتهم يغطون في نوم عميق سبات ما عرفته العرب من قبل.
طلبت منه على استحياء أن يقرأ لي بعض القصائد من ديوانه الذي يحمله في يده.
فأخبرني أنه يحمل كتاب سيبويه.سألته في دهشة!
عهدي بك شاعرا تغنت الدنيا كلها بشعره.فلمَ تحمل كتاب سيبويه ؟
أصدر صوت تأوهٍ كاد قلبه أن يخرج معه.ثم قال لي إيهن أيتها العاشقة المؤرقة لم يعد هذا زمن الشعر ،القصيدة ماتت قبل أن تولد ،أجهضت الحرب حروفنا وهي ما زالت جنينا في شهوره الأولى والأدهى من ذلك بنيتي العاشقة أن القصائد استأصلت ورحم الشعر فصارت عقيمة ولن تنجب بعد اليوم إلا بمعجزة إلهية.أما بالنسبة لكتاب النحو
فقد حملته لأننا في زمن أحوج ما نكون فيه للمفاهيم النحوية.
فالسكون الذي أصبح علامة إعرابية في كل فعل يعبر عن صمتكم المخزي ،والكسر الذي تنصب به كل المفاعيل يعبر عن انكسار وانهزام الأمة وكذلك خضوعها وخنوعها
لقد أصبح العالم كله ضمائر مستترة.
موقع العرب مفعول به وسواهم فاعل إن غابوا ناب عنهم مفاعيل العرب فأصبحوا نائب للفاعل حتى مفعولنا المطلق أصبح مقيدا.
والحال يرثى له تحول من منصوب قائم إلى مكسور نائم.أما التمييز فقد كان سببا في كل هذا الدمار ،وهل قرر أخوة يوسف إلقاءه في غيابة الجب إلا بعد ماشعروا بالتمييز وبعد رؤيته “أحدى عشر كوكبا والشمس والقمر….” .
وعن العطف لا تسألي فكل المآسي والأحزان سببها قسوة قلوبنا وتحجرها انتزع العطف من قلوبنا والرحمة…..
وأما النداء فوجدته بين ندبة واستغاثة تعالت أصوات النساء في بلاد العرب مستغيثات ومستنجدات أولادهن وأخوتهن وأزواجهن يقتلون، كرامتهن تداس في التراب.
وكيف لي أن أنام وصوت ذلك الطفل اليمني “فريد”يزورني في كل حلم وفي كل ليلة صوت أظن عرش الرحمن اهتز له ولم تهتز له مشاعر الزعماء العرب الميتة، وبدأ متمتا بالشعر

لا تقبرناش فريدٌ قالها ورحل.
فكم فريدٍ فيك يا بلادي أفل
ما زال صوته في الأرجاء مرتجفا
فكم بكته قلوب ٌكم بكته مقل .

حاولت أن استفز قريحته الشعرية فصحت قائلة هيهات هيهات يا أبا الطيب أن تصبح القصيدة عقيمة هو ذا قرين شعرك قد أقبل.
فرد علي والحزن قد كسا ملامحه أي قرين هذا ؟لقد تركته هناك في بلاط سيف الدولة ولا مكان له بينكم ،فحلب الشهباء التي كانت تلهمني بساتينها الشعر أصبحت غارقة بالدماء وأشلاء الضحايا……. تفوح رائحة الموت من بساتين درعا وحمص ياسمين الشام ارتوى بالدماء بردى الشام ودجله العراق وفراتها أصبحوا يزخرون بلؤلؤ من نوع آخر قطع لحم لجثث متناثرة تتار الماضي صبغوها بلون الحبر وتتار العصر صبغوها بلون الدم .
آ….ه…… لقد كثرت المآتم في ديار العرب.
همّ بالرحيل ،فشعرت أنني قضيت ليلة تاريخية .فهل يتجلى المتنبي إلا لمن يسير دم العروبة في عروقهم وتنبع الأصالة من حبر أقلامهم ؟ومن أفضل من المتنبي شعرا وأجلهم قدرا علّه ينقل هذا الوضع الذي صرنا إليه إلى سيف الدولة فيعلنها حربا ضروسا على الأعداء المتربصين للأمة على كل الثغور أو علّه يلتقي بأبي تمام فيطلب منه كتابة قصيدة توقظ معتصمنا النائم ،حديث دار في النفس.قطعه صوت المتنبي وهو على وشك المغادرة ،أيتها العاشقة المتيمة أي فارس هذا الذي جعلك تنظرين طيفه حتى الساعة؟ولقد حملت الريح صدى همساتك المثقلة بالوجع والأنين والأهات ……
فسمعتها وأنا على مشارف غرناطة في أندلسنا القديمة.
آاااااااهٍ أيها الشاعر الذي تجلى لي من الزمن الغابر لقد وضعت ملحا على جرحي فاسمع عن فارسي الغائب خلف أسوار الرجولة المصلوبة.
يسكنني وطن موجوع بل تسكن قلبي أوطان
يسكنني غصن الزيتون قد مات بقصف الطيران
تسكنني أم تستنجد أولادها خلف القضبان
ما قتلوا بقصف صاروخي بل قتلوا بسوط السجان
تسكنني أخت بصراخ قتلت أختها والأخوان
تسكنني أرملة تبكي زوجها فادي أو عثمان
تسكنني أطفال تلعب بدُمى الموت في الزنتان
أطفال قد فقد ت منزل قُتل أبواها. الاثنان
يسكنني جوع وتشرد موت يسكنني حرمان
تسكنني أرض مغتصبة. قدس…حيفاء….جولان
تسكنني فلول عربية تُُنهش كقطيع الخرفان
تسكنني مدن تتهاوى تقصف تشتعل النيران
يسكنني وجع متخثر ورفات بقايا إنسان
يسكنني بطل عربي يفتح لي كل البلدان
ويقود جيوشا زاحفة ترفع علما في البلقان
فيصير ماضينا حاضر لا نصبح طي النسيان
يسكنني يوم ينتصر فيه الحق على الشيطان
يسكنني وهج الحرية تسكنني يمن الإيمان.

صاح المتنبي بخٍ بخٍ أيتها العربية المتيمة يوجعك ما أيقضني من قبري وجعلني أقطع كل مسافات الزمن أفتش عن صحوة عربية ،فوجدت أمة مخمورة وكأنها قد احتست كل ما في الحانات من كؤوس الذل والخنوع……
يوما. ما بنيتي المتيمة سأكون نديمك وسنحتسي معا كؤوس الانتصار وأعدك أنني سأمر على قصور الخلفاء والأمراء لاصطحب جوارٍ تتغنى بقصائد النصر

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة