في التذوق الأدبي

الجوزاء نيوز – سامي نعمان

البارحة، كنت أقرأ مقطوعة بديعة لشاعرة متمكنة، لم تكمل الثانوية العامة، شاعرة عراقية بالتحديد. في شعرها أنفاس الصوفية وإشاراتهم اللطيفة، وعمق الفلاسفة. كنت أتابع التعليقات، ومن ضمنها تعليق أشاد بالشاعرة، غير أنه ندت عليه لفظتان لا تتناسبان مع المقام، وأحسست بانقباض داخلي، لاختيار تينك اللفظتين بالتحديد في مقام مثل ذلك المقام. واللفظتان هما: “تقيئي واستفرغي”، وصاحبنا يريد استمري بهذا البوح الجميل وزيدينا منه. غير أنه لم يكن موفقا باستعمال بعض الألفاظ. وأيا يكن فهذا الجانب التذوقي للكلام في أثناء الكتابة أو التحدث أمر يعز على الكثيرين، غير أنه يمكن تنمية هذا الجانب التذوقي بالقراءة في كتب الأدب والبلاغة والنقد، وممارسة الكتابة. ذلك أمر، على كل حال، يدخل في إطار القدرة على الكسب، ولا يوجد شيء مستحيل.

وقديما قال النقاد وعلماء البلاغة: لكل مقام مقال. ولكل كلمة مع صاحبتها مقام. ولذا قد تكون الكلمة بشعة سيئة في ذاتها غير أنها إذا وردت في موضع معين في التركيب فثمة موضعها اللائق بها والذي لا يصلح في مكانها سواها. فمثل كلمة مستشزرات لا يوجد أفضل منها في تصوير المعنى الذي أراده امرؤ القيس في قوله، يصف شعر محبوبته المتعثكل والغزير:

غدائره مستشزرات إلى العلا
تضل العقاص في مثنى ومرسل.
دعك من كلام بعض البلاغيين في الحكم على هذه اللفظة بالشناعة والغرابة، فإنهم نظروا إليها في ذاتها، ولم ينظروا إلى موقعها ضمن التركيب والمعنى الذي أراد الشاعر تصويره لنا. وهو ما تنبه إليه بلاغيون آخرون أجود تذوقا وأعمق بصرا. وأيا يكن فالحكم على بلاغة كلمة إنما يكون بالنظر في موقعها داخل التركيب أو السياق كله.

وفي هذا المعنى الذي نحن بصدده يقول الجرجاني:
وهل تجد أحدا يقول: “هذه اللفظة فصيحة”، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لخواتها؟ وهل قالوا: “لفظة متمكنة، ومقبولة”، وفي خلافه: “قلقة، ونابية، ومستكرهة”، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالية في مؤادها؟

والحق أن هذه الزاوية من النظر في شأن تذوق الكلام أكبر من أن تحيط به مثل هذه المقالة العجلى، ودونك كتب البلاغة والنقد القديم، ففيها مادة غزيرة في هذا الشأن. غير أني سأذكر مثالين فيهما غناء للتبصر ويساعدان في تمكين هذا الأمر التذوقي للقارئ.

لقد ﺃﻧﻜﺮ ﻧﺼﻴﺐ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﻤﻴﺖ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ:
ﺃﻡ ﻫﻞ ﻇﻌﺎﺋﻦ ﺑﺎﻟﻌﻠﻴﺎء ﻧﺎﻓﻌﺔ
ﻭﺇﻥ ﺗﻜﺎﻣﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺪاﻝ ﻭاﻟﺸﻨﺐ

ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺎﻝ ﻟﻪ: ﺃﻳﻦ اﻟﺪﻝ ﻣﻦ اﻟﺸﻨﺐ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ اﻟﺪﻝ ﻣﻊ اﻟﻐﻨﺞ ﻭﻧﺤﻮﻩ ﻭاﻟﺸﻨﺐ ﻣﻊ اﻟﻠﻌﺲ ﺃﻭ ﻣﺎ ﻳﺠﺮﻱ ﻣﺠﺮاﻩ ﻣﻦ ﺃﻭﺻﺎﻑ اﻟﺜﻐﺮ ﻭاﻟﻔﻢ. ﻓﻜﺎﻥ اﻟﺪﻝ ﻭاﻟﺸﻨﺐ ﻓﻲ ﻗﻮﻝ اﻟﻜﻤﻴﺖ ﻋﻴﺒﺎ ﻷﻧﻬﻤﺎ ﻟﻔﻈﺘﺎﻥ ﻻ ﻳﺘﻨﺎﺳﺒﺎﻥ ﺑﺘﻘﺎﺭﺏ ﻣﻌﻨﻴﻬﻤﺎ ﻭﻻ ﺑﺘﻀﺎﺩﻫﻤﺎ. فالمعنى الذي أراده الشاعر هنا أن يصف محبوبته بالدلال أو التدلل، وللتدلل كلمة أخرى تناسبه هي الغنج، فنحن نقول مثلا: فلانة تتدلل وتتغنج. أما الشنب فإنه لعاب الفم والشاعر، حقيقة، لم يخرج كثيرا عن المعنى العام في وصف محبوبته غير أنه طالما ذكر التدلل فمن الأنسب أن يذكر الغنج، وهو ما تنبه إليه ذلك الناقد.
والمثال الآخر نقتطعه من المثل السائر: وزاوية النظر فيه كلمة يؤذي/ تؤذي. فهذه الكلمة وردت في آية قرآنية، هي:

“فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ”.

كما وردت في بيت شعري للمتنبي، وهو قوله:

تلذُّ له المروءة وهي تؤذي
ومن يعشق يلذُّ له الغرام

ويعلق صاحب المثل السائر على الكلمة ذاتها الواردة في سياقين، فيقول بعد إيراد الآية ثم بيت المتنبي:

وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة، إلا أن لفظة “تؤذي” قد جاءت فيه وفي الآية من القرآن، فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها، وحسن موقعها في تركيب الآية. فالكلمة هي هي بشحمها ولحمها إلا أنها في موقعها الجميل في الآية، بعكس البيت. والسبب اختلاف موقع الكلمتين بالنظر إلى التركيب.

تلك الملاحظات تتعلق بموقع الكلمة تذوقيا ضمن التركيب، ولكن الأمر يمتد أيضا إلى تركيب بكامله ضمن تركيب أكبر أو نص، قد يتبدى على هيئة صورة بلاغية.
فهذا شاعر أندلسي يصف خرير المياه، والطبيعة الخلابة والمناظر الخضراء الجميلة في الأندلس، وكان من ضمن ما قال:

والماء أسرع جريه متحدرا
متلويا كالحية الرقطاء.

في أبيات بديعة سبقته، غير أن الشطر الثاني من البيت الذي ألمعنا إليه، يثير انقباض النفس ويبعث على الفزع، فلا يمكن أن ترتاح النفس لمنظر حية رقطاء بين ذلك الجمال، ولذا فالشاعر أخفق باختياره تلك الصورة في ذلك المقام.
وبعد، فالكاتب الجيد يختار ألفاظه وهو يكتب أو يعلق أو حتى يتحدث على نحو يتناسب مع طبيعة الموقف، فمن البشاعة أن أمتدع شاعرة أبدعت في مقطوعة ثم أقول لها، ضمن حشد جميل من الثناء، تقيئي يا شاعرتنا العظيمة واستفرغي!

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة