بقلم/ صلاح الاصبحي.
…..
تمهيد :
قد تكون ذكرى المبدع المخلد غير مبررة بحضورها إن كان حضورها لا يحمل الخاص دون العام الذي تم تداوله من ذي قبل ولا يجعلها بعثاً له بحلة جديدة تنقيباً ووصولاً مختلفاً معه , كي نقرأ اللامعروف فيما نتذكره, لا أن تكون ذكرانا بحسب حماسنا أو تعاطفنا أو بحسب رغبة اللحظة التي نحن فيها, وما تحمل من استدعاء غير لائق ومناسب, حيث المكانة التي يظهر من خلالها عبر ابتهاجنا ووقوفنا برهة بجانبه..وقوفاً بهيبة ووقار وإلحاح واستغوار نكتشف عالمه ونغوص تداخلاً وانسجاماً حفراً نطلع منه وقد حملنا منه لوناً ناصعاً يشرق بصبح جديد, حتى نشعر أننا منحنا شرفاً بتذكرنا له , لا أن تتنكر أفعالنا على رموز ثقافتنا وإبداعنا , وخاصة إذا كان عقد ونصف من الغياب , ومع هذا لا يزال عالم البروني غائباً , ولم تكتمل صورته في وعينا وثقافتنا كأنما خيالنا قاصر عن استيعابه, أو أنه يفوق طاقته الاستعابية كلما كانت ملفات بحجم البردوني تثقل كاهله ,علينا كمهتمين بالأدب أن نقدمه للعالم بصورة تليق بمكانته وأن نظهره كشخصية إبداعية خارقة وأن نكون أكثر إشراقاً وتيقناً به,بل أعمق إدراكاً واستبطاناً وإحاطة كيقين وجودي .
البردوني عالم متداخل ومبهم , متشعب بتفرده ومتميز بديمومته الأبدية حيث تفيض شعاعاته كلما أتت اللحظات وقد زاد اتساعاً ودهشة , اتساع يدفع بالمهتم العاشق للمكاشفة والتماهي معه وسريان دم ذلك الاتساع في الافصاع عنها تعبيراً رمزياً عن فاعلية اتصالنا به .
لقد تأملته ومسافة تفصلني عنه رغم أني جزء منه كي أتمكن من التفكر فيه والتدبر في أفقه وتجليات امتداده وهذا ما أوقعني متورطاً في تصوري وافتراضي للكيفية التي جاء بها , محاولاً دون ملل التشبت ببعض الأوهام الافتراضية للبحث عن رد مقنع أمنحه لذاتي قبل أن يعرفه الآخر .
ما يهمني هنا , هو كيف جاء هذا الذي يسمى (البردوني) بهذا الشكل المختلف وبهذا الحجم المغاير لمن حوله , وكيف انعكست ثقافته وبدت خاصة بالنسبة لمجتمعه , وخاصة بالنسبة لإبداعه , وحينما نعجز عن فهم عالمه أو الولوج فيه , إما أن تغلب عاطفتنا على تفسيرنا فنحيله إلى مقدس مهال لا يلزم تفحص وجوده , أو تضعف قدرتنا فنوصمه بالأسطورة ونقربه من الميتافيزيقا , وتصبح هي وحدها الأقدر عليه , كون عاهته أشفع على قدراته المعجزة , كما هو مشاع .
لي افتراضان الأول يبدو ميتافيزيقياً والثاني يظهر واقعياً وكلاهما يحلمان بالوصول إليه .
كيف جاء هذا البردوني?
جاء من لعنات زمنية منكوبة ولحظات مسعورة تفاقمت بين أزمة وجود وأزمة حضور .
جاء متخماً بتكهنات لم يكمل الإفصاح عنها ظل يناثرها رويداً رويدا,يطعمها أشعاره وكتاباته , يقطرها رمزاً وسيمياء.
جاء في الوقت الذي لم يأتي غيره..جاء بلا ماض وعاش بالمستقبل وإن كان حاضراً .كان الفرد الذي يجيء بينما كان الكل يغيب ,سار عكس التيار , كانت اليمن تعود قرون إلى الوراء بينما بقي يسير في طريق موحلة وقاحلة وحيداً فريداً لم يشاطره أحد ولم يتردد ولم يتر اجع في سيره الوحيد سيراً زمنياً في الإطار الوجودي أكثر منه سيراً واقعياً لأن خطواته الواقعية لم تكن ذا بال عنده استبدلها بخطى البصيرة إذ أجبره اختيار النمط الفريد في الحياة على أن يتخلى عن بصره ويتمسك ببصيرته, أن يشهد جملة من التراكمات الحياتية وهي تنسج في عالمها المثالي قبل أن تتشوه حدوثاً على أرض الواقع .
تقبل الأمر واقتنع باختياره لمصيره ودفع البصر ثمناً ليمارس اختياراً حراًباعتبار ممارسة الاختيار الحر تحقيقا للحضور وإثبات للوجود , ولقد فضل هذا السير لأنه استشعر حالته قبل أن تحدث لو بقي قابعاً مع من حوله يمارس غواياتهم ووهم حيويتهم .
ولذا يعد مجيئه كناج أوحد من طوفان ابتلع كل شيء , إنذار أخير خرج من سياق ذلك الطوفان وتموسق في المدى الزمني الذي حفظ كينونته وتحفظ هو ببذرات للقيم وشتلات للسلام وأنماط مختلفة لبراهين الوجود ومنابع البقاء لكي يزرع منها وطناً مثالياً , فكان انتصار للسباق العكسي بينه كزمن وبين البلد كواقع , سباق في اتجاه معاكس ومتنافر حتى لا يحصل التلاشي لو جر هذا الرائي إلى خصمه الواقع .
إذاً فهو نتاج صراع حثيث باعتباره طرفاً في الصراع ونتيجة منبثقة من مجمل ذلك الصراع وعليه فإن النظر له من الناحيتين جدير لمعرفة تشكله كطرف وتتبع سيرته الوجودية حال ما أصبح بهيئته التي عرف بها , وكيف كان استمراره في فعل الحضور الوجودي حضوراً أثار الحيرة بعجزنا عن استيعاب تواجده وإدهاش بتغلغله في تفاصيل حياتنا التي ولدت بفعل انتصاره المصيري الإختياري كوننا خلايا لكائنات عمل على خلقها في وطن مثالي مبتكر بحضوره .
على هذا المجرى التصوري المفسر لمجيء هذا المعجز يمكن الأخذ بنمطه ومحاولة فك شفراته, وقد نتوه ويفلت منا الضوء البصيص الذي نحاول الإمساك بتلابيبه كلما أكثر من تحسس بقعاً مظلمة قد لا تقودنا إلى عشبة الخلود البردونية, فيتوجب الحذر من خفوت خيط الضوء إذ لا يسمح للتبلد بتكرار محاولته , وأنا هنا أحاول السعي بقلق بالغ خيفة الإخفاق , ولعلي بهذا الافتراض أريد النظر للبردوني كما ينبغي , افتراض يمنحني الصلة بمنالي الذي أحلم بتحقيقه وقد أفلح أو أخفق ويعتمد افتراضي هذا علىالقدرة في تخيل بداية وجوده وتفسيرها كظاهرة تحتاج إلى وقوف وتأمل كبيرين ,ومثلما تتشعب التفسيرات والتأويلات للظواهر الكونية كبداية وجود الكون أقتبس شاكلة ذلك مقيساً عليها وجود البردوني المبهم الذي جعل المحاولات هشة في التجديد وناقصة في التحديد لأن من مميزات وجوده عجز المتلقي عن تحديد ملامحه وغموض شخصيته ليظل سراً لخلوده .
في اعتقادي أن افتراضاً كهذا سنجد له بعض امتداد في كيانات البردوني المختلفة شعراً وسرداً فكراً كان أو أدباً, إذ تتنوع التشكلات الظاهرة لان

– 1 –
البردوني ذلك الفتى الذي أرغمته ثقافة مجتمع ما على إثباث وجوده, حتى يتمكن من البقاء , وإلا ربما لفظته من جغرافيتها للعاهة , التي يقابلها المجتمع بثقافته بالرفض والعنف , الرفض المذل أو العنف القاسي , وخاصة إذا كاني في رقعة جغرافية ذات نزاع قبلي متثأر , يحضر فيه الثأر والقتل أكثر من حضور السلم والتعايش , رغم قسوة المادة وغيابها شبه التام , هل يبقى فتى مثل البردوني وسط هذا النوع البشري غير الطبيعي , وهذا ما دفعه ودفع أسرته بنقله إلى ذمار ليتعلم ويعلم الصغار بما لديه من قدرة طفولية على الفهم والكسب المعرفي المبكر , كي يتحمل أعباء نفسه ويكسر بقائه المرفوض في أسرته , هذه الحالة التي يجعل منها البردوني منطق حياته وسر اختلافه وهي الرفض المطلق للإذلال أياً كان نوعه , ومتابعة هذا الرفض لإرادة لا تكسر ولا تتراجع , مما جعل هذه الطريقة تسيطر على أغلب تصرفاته وأغلب تفكيره , وبقدر المسافة التي تمكنه من الخطو , فهو مغامر مجرب , وستلحظ ذلك فيما بعد .
وحينما واصل خطوته الثانية نحو صنعاء , نحو مدينة ليس له صاحب ولا قريب , ولا يعرف من أحوالها شيئاً ,سوى أنها مدينة يمكن أن توفر له البقاء , أن تسد رمقه الوجودي , أن تمنحه عصمة من ويل مجتمع قاس في ذمار , وليس في جعبته إلا المغامرة التي لا يفعلها شخص سليم , فما بالك بهذا المفتقد لحاسة هامة , وقصة وصوله صنعاء , ووقوعه من سور كبير على (مقشامة ) تزرع الخضروات , وما لاقاه في ذلك اليوم , حدث يكبر من خلاله البردوني , ويصبح به إنساناً لن ينساه التاريخ , حتى لو لم يكن شاعراً أو مبدعاً , ترى ! هذه أول أيام البردوني في صنعاء ينتظر حنانها فقابلته بصورة لم يتوقعها مطلقاً , وكيف انعكست تلك الحادثة على تصوره .
-2-
هذا التلقي المؤلم لشخص البردوني من الحياة والمجتمع , لم يقابله بانتقام ولم تنعكس مشاعره سلبياً تجاه هذا المجتمع , بقدر ما كانت إيجابية التأثير والتلقي عنده , حينما رأى لماذا يعمل بهذا الشكل , هل المجتمع حاقد وقاسي لهذذا الحد , أم أن ظروفه هي من أحالته إلى نمور في غابة , تصارع من أجل أن تعيش , كل يقسو على الآخر , وما الذي دفعه , ورسم تصوره للحياة أي المجتمع , لتصل قناعة البردوني , بأن الاستبداد والظلم وقهر الحاكم هي من أرغمت المجتمع وعكرت طريقة عيشه , وأبعدته عن الاستقرار بقدرتها على تجهيله , وهنا يكتشف منبع الشقاء ومصدر كل ذلك القبح الشائع كسلوك في حياة الناس .
تؤدي هذه المعطيات دور المنبه والمحفز معاً في وعي البردوني , محدثة تفاعلاً هاماً في تفكيره وسلوكه وإحساسه بمن حوله , وطموحه في تغير واقعه , الذي يتفاعل مع كل مجرياته , بنمط آخر يسعى للشعور بها دون غيره , حتى لا ينفلت منه هذا التفاعل دون أن يستوعب تلك اللحظة التي يتلقى بها أمراً ما أو حدثاً معيناً , كي يرسم تصوره الخاص إزاءها , وتقولب في ذهنه , ويبقى حجم الألم في ذهنه أكثر من الشعور به جسداً , حيث تتحول كل مرئياته الشعورية صوراً ذهنية مأرشفة , يعالجها ويستوضح خصائصها .
-3-
البردوني هنا يتشكل بصورة مختلفة , بصورة جسدها إحساس مختلف , وواقع مؤلم , وثقافة قاسية , فغدا تشكل تكوينه النفسي والاجتماعي أقدم من تشكل تكوينه الفكري والمعرفي والإبداعي لأن التشكل النفسي والاجتماعي أصبحا يفرضان عليه تكويناً فكرياً ومعرفياً يقوم على أساس الوعي بكل شيء , الوعي المتمثل بالتطلع والحرية , الوعي بالإنسان كوجود وقيمة , الوعي بحياة عصرية , خالية من المقدس الواهم ومخلصة للآخر كوجود وتكوين , وهنا صارت لدى البردوني فلسفته الخاصة , فلسفته المتشكلة بقيمة الإنسان وقيمة فكره وثقافته وقيمة إبداعه, وحقيقة حريته التي يلزم حضورها في أرض حرة , لا استبداد ولا كبت ولا حرمان , وهذا يفسر اختلافه في فكرة الإنسان والوطن عن كثير من نظرائه .
وقد تجد في سيرة الرجل الوجودية وسيرة إبداعه قصصاً وحكايات تثبت حقيقة اختلافه في أمور شتى , تثبت عظمته , ونقاء كينونته , وحلمه المتسع بإنسانيته وشعبه .
-4-
قد نسأل أنفسنا أحياناً , هل البردوني مبدع بالصورة المتضخمة , والمتفردة التي هي عندنا ؟؟ أم أن عجز كثيرين عن مجاراته والبروز أكثر منه ؟ أو وجوده في بلد متخلف إبداعياً جعلنا نراه كبيراً , ولنا الحق في هذا التساؤل طالما أن حكايات كثيرة تصاغ عنه , له أو عليه .
ولا يخفى على أحد أن وجود إلبردوني شاعراً , جاء في لحظة شهد فيه هذا الجنس الأدبي المسمى الشعر اضطرابا شديداً سواء للتحول أو للبقاء , مما يجعل لشاعر مثله طقس مختلف , ما الذي يمكن أن يبقى فيه ؟ وكيف يصمد ويختلف ويتميز؟ والأغلب يدرك إصرار البردوني على الشكل العمودي والبقاء داخله , رغم التحولات كما ذكرنا , ليس عجزاً ولا استنكاراً, لا اعتزازاً بالعمود ولا تقليلاً للنثر أو التفعلية , وإنما إنسجاماً وصراعاً من أجل بقائه بهذا الشكل , كما بقي هو كإنسان رغم كل العواصف , وليس البقاء العادي وإنما المختلف والمتميز, المختلف بكل خصوصيات الشعر ومرجعياته وتكوينات صوره وخيالاته وتمثلاته الفكرية والوجودية , وتلوينه بقيمة الإنسان والوطن , وصموده أمام جوارف شعرية هائلة , وهذا منحه خلوداً مختلفاً له كإنسان أبدع بتفرد , واختلف بندرة .
-5-
أختم هرائي بالقول ,إن البردوني , سخَّر ثقافته ومركزه وفكره , بما يجعل الإنسان هو المركزالذي تدور من حوله الثقافة والسلطة والشهرة والمجد والمال , لا تتسلط عليه وإنما تنفعه , تحفظ وجوده المادي والمعنوي , فكان البردوني مثقفاً منحازاً لقيم المدنية والديمقراطية والحداثة التي لن يستقر حال الشعوب إلا بها , ولا يمكن اختفاء تعاستنا والأورام المتفشية في فكرنا وسلوكنا إلا بالانحياز والاعتبار لهذه القيم , فكان فردا ,لكن همومه وشواغله الإنسانية فكراً وإبداعا وسلوكاً , هموم أمة وجيل بأكمله.
أخيراً تأتي أطياف ذكراك ونحن في ظرف ليس للطيف ولا للضيف معنى , لكنك تضغط علينا بقوة , وأنت تتوجع على يمن يتمزق تحت طائلة الصراعات السياسية والقبلية وقد تغدو طائفية , وليس لنا فيها ناقة ولا جمل , سوى أنها تجتاح أحلامنا وتكسر استقرارنا , وتعيدنا من حيث بدأنا , ليتك هنا , ليتك هنا .

من مدير