-أيوب طارش.. بين خلود اللحن.. وفناء القصائد !

img

د.تامر الأشعري سأتلو عليكم اليوم زبور غناء أشهى من الماء، وألذ من صبوة مستثارة ، إن شدا شاديه فالآذان رهن غنائه، يثير بحنينه مكامن الوجد، وينبش برنينه مخابئ الحب، ويسرق بروعة لحنه أسرار الضمائر ! نغماته كلها رشفات لوعة، وأنات شكوى، وعناقات غرام، يزرع بها الصبابة في صحارى القلوب، فإذا هي جنات معروشات، وغير معروشات، تتدلى من فوقها أثمار العشق، وتجري من تحتها أنهار الشوق ! لا ترى في دفقات ألحانه شمساً ولا زمهريراً، كأنما أغانيه استغفار من سيئات الزمان ، ولكم قرعت مسامعنا بعده من أغانٍ ، يصك آذاننا بها ألف فنان وفنان، لا كلماتها رائعة، ولا ألحانها ممتعة، وليس لها لون ولا طعم ولا رائحة، إلا أني لا أنكر أن لها فضلاً هو بالذكر جدير، ذلك أنها تذكرني بقول العلي الكبير:«إن أنكر الأصوات لصوت الحمير»! كلما سمعت شدوه، تخطفتني الحيرة من كل جانب، فما أدري أأقف لصوته الندي إجلالاً؟ أم أرقص طرباً؟ أم أتسمر في مكاني هيبة!؟ إنه «أيوب طارش»، فتى بني عبس، الذي تخفق لأناته أعماق الأرض، ويرقص لترانيم أوتاره شعاع الشمس، وأحلف لكم أني ما سمعت فناناً فقلت بعد فراغي منه: «جزاك الله خيراً» غير «أيوب»، ولا تسألوني عن سبب هذا كله؟! لأن ذلك شيء يحيط به العقل، ولا تستطيع اللغة الإفصاح عنه: شيء به فتن الورى غير الذي * يدعى الجمال ولست أدري ماهو!! ولا تجادلوني في ذلك، فصدري يضيق من مثل هذا الجدال، فأنا لا أدري لماذا يطربني غناؤه؟ ولعل ترانيمه تشجيني لأنها تشجيني: أحبك لا أدري لماذا وعلني * أحبك ياهذا لأني أحبكا! بين جفنيه بحر من الحزن، وبين شفتيه سرادق من نار الغرام، فلولا دفاع الله لهام بروحي في أودية الهوى بغير خطام! عجباً له! لا تنصت لشجن إيقاعه، حتى يجمع عليك الضدين، ويزرع فيك النقيضين: يوقد في صدرك ناراً ، ويفجر من عينيك دموعاً غزاراً! غناؤه رقية من الهموم، وحرز من الضيق، بل هو السحر الحلال، الذي يذهب بألباب الرجال، تكاد القلوب منه تتشقق، والأكباد تتفتق، فإذا سمعته فترفق! إذا لامست أصابعه أوتار العود، تكلمت بين يديه بلسان عربي مبين، ونفثت في روعك آهات الشوق والحنين، فترى حينئذ قلبك يطرق، وتسمع لسان حالك تنطق: انظم الدمع أيها الطير شعراً * مثلما توقد الجوانح جمراً! إن صدري كنانة لسهام * قد رمته الأيام شفعاً ووتراً!! ولست أرى إلا أن فضله على سائر الفنانين، كفضل الثريد على سائر الطعام، غناؤه قوت يشبع جوع الأسماع، ويسري في العروق سريان الشفاء في الأوجاع، إذا غنى للوطن، صفقت له أنهار الوديان، ورقصت له أغصان البان والريحان، ورددت الطيور وراءه أعذب الألحان، فإذا الكون كله يترجم لغة الأوتار، وإذا الأماني تعشعش بين «أعشاش الأشجان» بعد أن كانت رياض الأنس قفرة، وندى الحقول يبكي على كل زهرة ! وإذا غنى للعتاب، اعتذرت له حبات القلوب، وأشارت له العيون إشارة محب لمحبوب! وإذا غنى للبعاد، عانقت الأرض والسماء، وناجت الظلمة القمر، وقبلت الأقلام خدود الرسائل، وسرت نسائم الهواجس ليلاً تطوي المسافات، وانتشرت سؤالات الهيام، تبحث عن إجاباتها في أودية السهاد! وإذا غنى للحب، أذاب الأشواك من دروب المحبين، وداوى ببلسم الآمال جروح العاشقين، وأغوى المسميات عن أسمائها، وأذاب الأسماء في ماهياتها، وأوحى إلى ندى السرور، ليهمي فوق زهور الحب فيملأها رحيقاً، ولملم الأشواق و«الأحراق» فحشا بها قلوب اللائمين، فسرت نار الوجد في أوصالهم، ثم طردهم من «جنةالحب» التي «شيدتها المنى» مذمومين مدحورين! ولا أجهل أن قصائد أغانيه لغيره، لكنها أجساد هو روحها، وإن سألتموني عن ماهية هذه الروح أجبتكم:«قل الروح من أمر ربي»!.. روح تصير بها حصى الألفاظ في فمه دراً، وتنقلب عصا الأشعار في يده سحراً، وتتمايل الأرواح من رنات عوده سكراً، وكل أشعار المولهين، وقصائد العاشقين، أرض جرز، حتى إذا سيقت إليها سحائب أيوب:«اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج»!. ولا أنكر أن معه فريقاً من المنشدين، والضاربين على الآلات، لكنني أرى أن هؤلاء جميعاً، شربوا من مزاج تسنيمه، واتكأوا على أرائك ترنيمه ! إن صوته لهو نبع الأنغام، وجنون الأحلام، وآية الله في الإلهام، والندى الذي يسقي أزهار ربيع المودات على تتابع الأيام، وستبقى أغانيه خضراء الربى، في المراعي حيث أيام الصبا، لأنها أشربت الخاص بالعام، ومزجت الجسد بالروح، فمزاجها كافور، وإيقاعها لؤلؤ منثور، نسيمها نسيم الريحان والآس، وبريقها أروع من بريق الذهب والماس ! ستظل ألحان «أيوب» معجزة الزمان، ونادرة الدهر، وأطروفة العجائب، ولو حلف الزمان الأيمان البالغة إلى يوم القيامة، على أن يأتي بمثله، ما صدقته، ولو صدقته.. لتراجعت عن تصديقي له وكذبته !!

كتابات 6 مدير

د.تامر الأشعري

سأتلو عليكم اليوم زبور غناء أشهى من الماء، وألذ من صبوة مستثارة ، إن شدا شاديه فالآذان رهن غنائه، يثير بحنينه مكامن الوجد، وينبش برنينه مخابئ الحب، ويسرق بروعة لحنه أسرار الضمائر !
نغماته كلها رشفات لوعة، وأنات شكوى، وعناقات غرام، يزرع بها الصبابة في صحارى القلوب، فإذا هي جنات معروشات، وغير معروشات، تتدلى من فوقها أثمار العشق، وتجري من تحتها أنهار الشوق !
لا ترى في دفقات ألحانه شمساً ولا زمهريراً، كأنما أغانيه استغفار من سيئات الزمان ، ولكم قرعت مسامعنا بعده من أغانٍ ، يصك آذاننا بها ألف فنان وفنان، لا كلماتها رائعة، ولا ألحانها ممتعة، وليس لها لون ولا طعم ولا رائحة، إلا أني لا أنكر أن لها فضلاً هو بالذكر جدير، ذلك أنها تذكرني بقول العلي الكبير:«إن أنكر الأصوات لصوت الحمير»!
كلما سمعت شدوه، تخطفتني الحيرة من كل جانب، فما أدري أأقف لصوته الندي إجلالاً؟ أم أرقص طرباً؟ أم أتسمر في مكاني هيبة!؟
إنه «أيوب طارش»، فتى بني عبس، الذي تخفق لأناته أعماق الأرض، ويرقص لترانيم أوتاره شعاع الشمس، وأحلف لكم أني ما سمعت فناناً فقلت بعد فراغي منه: «جزاك الله خيراً» غير «أيوب»، ولا تسألوني عن سبب هذا كله؟! لأن ذلك شيء يحيط به العقل، ولا تستطيع اللغة الإفصاح عنه:
شيء به فتن الورى غير الذي * يدعى الجمال ولست أدري ماهو!!
ولا تجادلوني في ذلك، فصدري يضيق من مثل هذا الجدال، فأنا لا أدري لماذا يطربني غناؤه؟ ولعل ترانيمه تشجيني لأنها تشجيني:
أحبك لا أدري لماذا وعلني * أحبك ياهذا لأني أحبكا!
بين جفنيه بحر من الحزن، وبين شفتيه سرادق من نار الغرام، فلولا دفاع الله لهام بروحي في أودية الهوى بغير خطام!
عجباً له! لا تنصت لشجن إيقاعه، حتى يجمع عليك الضدين، ويزرع فيك النقيضين: يوقد في صدرك ناراً ، ويفجر من عينيك دموعاً غزاراً!
غناؤه رقية من الهموم، وحرز من الضيق، بل هو السحر الحلال، الذي يذهب بألباب الرجال، تكاد القلوب منه تتشقق، والأكباد تتفتق، فإذا سمعته فترفق!
إذا لامست أصابعه أوتار العود، تكلمت بين يديه بلسان عربي مبين، ونفثت في روعك آهات الشوق والحنين، فترى حينئذ قلبك يطرق، وتسمع لسان حالك تنطق:
انظم الدمع أيها الطير شعراً * مثلما توقد الجوانح جمراً!
إن صدري كنانة لسهام * قد رمته الأيام شفعاً ووتراً!!
ولست أرى إلا أن فضله على سائر الفنانين، كفضل الثريد على سائر الطعام، غناؤه قوت يشبع جوع الأسماع، ويسري في العروق سريان الشفاء في الأوجاع، إذا غنى للوطن، صفقت له أنهار الوديان، ورقصت له أغصان البان والريحان، ورددت الطيور وراءه أعذب الألحان، فإذا الكون كله يترجم لغة الأوتار، وإذا الأماني تعشعش بين «أعشاش الأشجان» بعد أن كانت رياض الأنس قفرة، وندى الحقول يبكي على كل زهرة !
وإذا غنى للعتاب، اعتذرت له حبات القلوب، وأشارت له العيون إشارة محب لمحبوب!
وإذا غنى للبعاد، عانقت الأرض والسماء، وناجت الظلمة القمر، وقبلت الأقلام خدود الرسائل، وسرت نسائم الهواجس ليلاً تطوي المسافات، وانتشرت سؤالات الهيام، تبحث عن إجاباتها في أودية السهاد!
وإذا غنى للحب، أذاب الأشواك من دروب المحبين، وداوى ببلسم الآمال جروح العاشقين، وأغوى المسميات عن أسمائها، وأذاب الأسماء في ماهياتها، وأوحى إلى ندى السرور، ليهمي فوق زهور الحب فيملأها رحيقاً، ولملم الأشواق و«الأحراق» فحشا بها قلوب اللائمين، فسرت نار الوجد في أوصالهم، ثم طردهم من «جنةالحب» التي «شيدتها المنى» مذمومين مدحورين!
ولا أجهل أن قصائد أغانيه لغيره، لكنها أجساد هو روحها، وإن سألتموني عن ماهية هذه الروح أجبتكم:«قل الروح من أمر ربي»!.. روح تصير بها حصى الألفاظ في فمه دراً، وتنقلب عصا الأشعار في يده سحراً، وتتمايل الأرواح من رنات عوده سكراً، وكل أشعار المولهين، وقصائد العاشقين، أرض جرز، حتى إذا سيقت إليها سحائب أيوب:«اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج»!.
ولا أنكر أن معه فريقاً من المنشدين، والضاربين على الآلات، لكنني أرى أن هؤلاء جميعاً، شربوا من مزاج تسنيمه، واتكأوا على أرائك ترنيمه !
إن صوته لهو نبع الأنغام، وجنون الأحلام، وآية الله في الإلهام، والندى الذي يسقي أزهار ربيع المودات على تتابع الأيام، وستبقى أغانيه خضراء الربى، في المراعي حيث أيام الصبا، لأنها أشربت الخاص بالعام، ومزجت الجسد بالروح، فمزاجها كافور، وإيقاعها لؤلؤ منثور، نسيمها نسيم الريحان والآس، وبريقها أروع من بريق الذهب والماس !
ستظل ألحان «أيوب» معجزة الزمان، ونادرة الدهر، وأطروفة العجائب، ولو حلف الزمان الأيمان البالغة إلى يوم القيامة، على أن يأتي بمثله، ما صدقته، ولو صدقته.. لتراجعت عن تصديقي له وكذبته !!

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة